Friday, March 19, 2010

عصفور طلّ من الشباك



صورة حقيقية للطائر

حركة خفية قادتني إلى مكانه من خلف الستار حيث كان يقبع بين زجاج النافذة المغلق وشباك النافذة الموارب، بنى عُشه مُشبكاً بكل مهارة وتؤدة وذكاء يصعب على الجنس الآدمي أن يُشكّل مثله بنفس الإتقان، الأعواد المكونة للعش تكاد تكون متشابهة المقاس ومتقاربة الصلابة ومتساوية الطول، تم تشبيكها بدقة نساج ماهر يصعب أن تنفرط، تقدمت بهدوء نحوه أرقب مايحدث، ينظر إليّ نظرة شك وخوف أن يتم في لحظة تهور آدمية غبية هدم ماتعب في بناؤه وسهر الليالي في إنشاؤه في خلسة من أصحاب النافذة، أكاد ألمح في نظرته إستجداء ألا أقوم بأي تصرف همجي معهود عنده من بني البشر، وكنوع من أنواع الإستعطاف إزاح بعض ريش بطنه ليريني أنه يرقد على بيضتين هما سبب إستسلامه وعدم طيرانه وكأنه يستحلفني أن أستخدم عقلي وأستفتي قلبي

أخبرت زوجتي بإكتشافي التي يبدو أنها تعودت عليه فقالت بتبرم: يووه تاني إحنا مش هانخلص من الحكاية دي، حديث زوجتي أوضح لي أنها ليست المرة الأولى، أما الروحانيات وحديث القلب والعاطفة عندها فقد تعطل على مايبدو بسبب أعمال النظافة التي يجب أن تقوم بها بعد ثلاثة أسابيع عندما ينتهي الأمر، إستفسرت منها عن كيف ينتهي الأمر، أخبرتني أنه بعد أيام قليلة سيفقس بيض اليمام ويخرج الفرخان وتذهب الأم منذ بداية اليوم وحتى الغروب بحثا عن رزق تطعم به أفراخها، ثم يتعلمون الطيران مسافات قصيرة حتى إذا إستطاعا الطيران غابا ولن يعودا ومعهما الأم، فتضطر هي إزالة أثار السكن الموجود والتنظيف محله، أعلم مشاعرها فأنا ادرك عشقها للنظافة، فأقول لها وهل هناك هدية أكثر من أن يرزقك الله بطير حر يحط على نافذتك آمناً دون جميع نوافذ الجيران فيستقر ضيفاً عندك أيام بكامل إرادته، قالت: هو يحل ضيفاً ويرحل بحريته ويقيد حريتي، وقبل أن تبدو على وجهي علامات التعجب، سارعت وأخبرتني أنه يوم أن يحط على النافذة تصبح النافذة محرمة علينا غلقها أو فتحها، فينطلق هو حراً ونصبح نحن سجناء، تبسمت ولم أشعر بأي سجن فالنافذة دائماً شبه مغلقة وعليها ستار شبه شفاف كافي بإدخال بصيص هادي من الضوء ولا نلجأ كثيراً لتغيير وضع النافذة أو الستار ليلاً أو نهار، صيفاً أو شتاء

تمر الأيام وأنا أتابع حالة اليمامة وصغارها سواء بيضاً أو فرخاً صغيراً، وأسرح بالدقائق أمامهم بعدما ألفوا وجودي وعدم تهوري، أتسائل أين زوج هذه المسكينة؟ ولماذا فعل فعلته وتركها وحيدة مسئولة عن سكنها والبحث عن أسباب الرزق لها ولأولادها وحدها، أنتظر يوماً أن يأتي فلايجئ، لعلها أرملة وقد فقدت زوجها ببندقية طائشة أو مرض عضال، يرتفع صوتي بالتساؤل لزوجتي هل لايأتي أبداً الزوج في حالات سابقة ليتفقد أم أولاده، أجابتني زوج مين وأولاد مين؟، مافيش زوج ولا حد .. هي لوحدها بطولها، ومش دي بس كل اللي قبلها كده

كنت في بعض الأيام أفكر أن أضع بعض الحبوب لهذه المسكينه تساعدها على تربية أبنائها دون مشقة زائدة في البحث عن الرزق وتراجعت لثلاثة أسباب غير مقنعة، أولها هو الخوف أن أتدخل في طبيعة حياتها الذي وهبها الله إياها فأفسدها عليها، وثانيها فتح النافذة لوضع الحب قد يصيبها من الهلع ما يجعلها تفر من المكان برمته، وثالثها تبرم زوجتي من أن وضع الحبوب على سور النافذة سيزداد من مساحة الإتساخ وسيحتاج لمجهود أكثر في التنظيف

كنت أنتهز غياب الأم وأفتح زجاج النافذة لألقي نظرة قريبة دون حاجز على الصغار، فهما لن يستطيعا الفرار لعدم قدرتهما على الطيران، فضلاً على أن إحساس الخوف من الغريب لم يتولد بعد لديهما، أرى شبح الأم على سطح أحد المنازل القريبة يتابع بترقب مايحدث، فأغلق زجاج النافذة سريعاً لتعود وتستكمل إطعامهما، أنظر من خلف الستار ومازالت أتسائل أسئلة بلا أجوبة، هل صغارها ذكور أم إناث؟ أنظر للعش وأتسائل من علمها صنعه؟ أنظر لها وأتسائل هل هي سعيدة أن تعيسة؟ أرحل ومعي أسئلتي بلا أجوبة

أستيقظ مبكراً على ضوء يغمر الغرفة الخارجية فأسرع لأجد الشباك مفتوحاً وزوجتي في حالة نشاط تنظيفي للنافذة في موقع اليمامة، أتسائل بفزع فين اليمامة؟، تجيبني بهدوء فيه إيه ياأحمد خلاص .. طارت وماعدتش بتيجي وكمان الصغار طاروا زي القرود؟ أتسائل بهدوء طيب مايمكن هاتيجي تاني؟ سارعتني مجيبة لأ خلاص مش هاتيجي تاني لا هي ولا أولادها دي مش أول مرة .. أقول لها بشاعرية الصباح: طارت للحرية، قالتلي آه وإحنا كمان نعيش بحريتنا بعد الحبسة دي، تبسمت كيف لطائر يأمل الحرية يستطيع أن يحبس أسرة بأكملها عن فتح نافذة أسابيع متصلة .. لم ألاحظ أن ولداي كانا بنفس الهدوء تجاههما فلم يهتما كثيراً بالموقف بنفس درجة إهتمامي وإن كانا يعلمان دون تبرم أن فتح النافذة في وجود اليمامة من المحرمات

بعد عدة أيام جاءت أخرى لتخيم في نفس المكان وتبدأ في بناء عش جديد لها، أزاحتها زوجتي وعشها وهي في بداية تكوينه قبل أن يكون أمراً واقعاً ، بعد يومين وجدت اليمامة في عشها الجديد على نافذة الجيران .. وضعت بعض الحبوب خلسة علها تعاود النظر وتعود، لم تعد .. شعرت بالغيرة

-------------------------------

إستمعت لأغنية عصفور طلّ من الشباك من عايدة الأيوبي في الثمانينات وأعجبتني بدرجة متوسطة، وإستمعت إليها مؤخرا مصادفة بتوزيع جديد هادئ وبطئ نسبيا وصوت معبر لمطربة إسمها أميمة، فإستشعرت كلماتها بطريقة أكثر تأثيراً، فأكاد أجزم أنها أغنية عبقرية في كل كلمة من كلماتها، بل أكاد أجدها الأغنية الوحيدة التي تعبر عن فكرة الحرية بمعناها الإنساني الشامل، وهي من ذكرتني بحكاية اليمامة تلك التي ذكرتها عندما كنت في أحدى إجازاتي السابقة

عصفور طلّ من الشباك


إستماع

عصفور طلّ من الشباك وقلّي يا نونو
خبيني عندك...خبيني دخلك يا نونو
خبيني عندك...خبيني دخلك يا نونو
قلتلّه إنت من وين قلّي من حدود السماء
قلتلّه جاي من وين قلّي من بيت الجيران
قلتلّه خايف من مين قلّي من القفص هربان
قلتلّه ريشاتك وين قلّي فرفطها الزمان
عصفور طلّ من الشباك وقلّي يا نونو
خبيني عندك... خبيني دخلك يا نونو
* * *
نزلت على خده دمعة وجناحاته مُدكية
واتهدى بالأرض وقال بدي أمشي وما فييّ
ضميتو على قلبي وصار يتوجع على جروحاته
قبل ما يكسر الحبس إتكسر صوته وجناحاته
قلتلّه خايف من مين قلّي من القفص هربان
قلتلّه ريشاتك وين قلّي فرفطها الزمان
عصفور طلّ من الشباك وقلّي يا نونو
خبيني عندك... خبيني دخلك يا نونو
* * *
قلتلّه لا تخاف إتطلع شوف الشمس اللي رح تطلع
وإطلّع على الغابة وشاف أمواج الحرية بتلمع
شاف جوانح عم بتزقزق من خلف بواب العلّية
شاف الغابة عم بتحلق على جوانح الحرية
قلتلّه إنت من وين قلّي من حدود السما
قلتلّه جاي من وين قلّي من بيت الجيران
قلتلّه خايف من مين قلّي من القفص هربان
قلتلّه ريشاتك وين قلّي فرفطها الزمان
عصفور طلّ من الشباك وقلّي يا نونو
خبيني عندك... خبيني دخلك يا نونو
* * *

10 comments:

  1. رقيق البوست جداااا
    يا صاحب الحكاوى


    و رقيق مصطلح
    شاعرية الصباح دا قوى
    فعلا الواحد كتير يصحى رايق لوحده
    و عنده حس مرهف
    و مفيش حاجة تعكننه لسه


    و جميل التوزيع الجديد دا
    رغم ان قديم عايدة الأيوبى كله بحبه
    لأنه جزء من وجدانى الشخصى
    و ذكريات ايام الجامعة
    و اجمل ايام حياتى


    رقيقة التدوينة فى فكرتها
    و صياغتها و موسيقاها
    تحياتى و خالص ودى
    يا صاحب الحكاوى

    ReplyDelete
  2. كنت مضايق والبوست بسطني
    حلوة اوي اوي
    حسيت اني بتابعهم معاك

    ReplyDelete
  3. بحييك يا استاذ شقير على التدوينة الرائعة جداااا
    ويمكن لان نفس الموقف مر بي من حوالي 10 سنوات
    وكان الامر يخص عصفور وليس يمام
    احساس رائع جدا ان تراقب حياه كائن حي وتتعرف على عالمه الخاص وتشوف اد ايه بيخاف مننا وان كنت ساعتها انا اللى بخاف لو قرب مني
    :)
    احساس الحرية نعمة تدركها الطيور أكثر من البشر
    بوست رائع وممتع جدا

    ReplyDelete

  4. فأقول لها وهل هناك هدية أكثر من أن يرزقك الله بطير حر يحط على نافذتك آمناً دون جميع نوافذ الجيران فيستقر ضيفاً عندك أيام بكامل إرادته


    تمام .. ده أروع ما فى الموضوع .. زمان فى أحد أفلام "إليزابيث تيلور" ظهرت فى لقطه و على رأسها أحيانا و على كتفها أحيان أخرى عصفور جميل ملوّن !! لفت نظرى جدّا وجوده و قلت فى نفسى يا ترى كم استغرق منهم كى يجعلوه بهذه الألفه معها كى يحط على كتفها دون خوف و بملء إرادته !! منتهى الثقه و الاطمئنان .. شئ جميل إن الواحد تتاح له الفرصه يمارس آدميته و يستشعرها

    ReplyDelete
  5. الأغنية دى اكتر أغنية بتعبر عنى وحطاها فى البروفيل بتاعى

    لأن الأنسان فدايما ياإيما العصفور يإيما النونو

    يوم المشجع ويوم المكسور
    واهى دنيا وبتدور

    ReplyDelete
  6. يااااه...فكرتنى بايام زمان فى بيت جدو ..جدتى كانت فى البلكونة تحطلهم الحبوب...ويجوا يبنوا اعشاشهم زى ماهما عاوزين ...كنت ايام حلوة ..

    بالنسبة للاغنية فدى حاجه من اللى احنا اتعودنا نسمعها واحنا صغيرين وبنكبر...اختيار رائع بجد

    :)

    ReplyDelete
  7. أتعجب دائما لمَ لا يعودون
    الأمان الذى شعر به الطائر وجعله يبنى عشه على نافذتك والطمأنينة والثقة التى جعلته يغدو خماصا ويعود بطانا من أجل صغاره أتعجب كيف لم تخلق مع الوقت المودة التى لابد وان تعود به يوما شوقا للمكان وأصحابه
    يذكرنى الأمر بالقطة التى تلد أطفالها بحديقتك وتتركهم مطمئنة لتعود بعد ساعات لإرضاعهم وكأنها تركتهم فى حمايتك.. ثم تبتعد عنك وعن أطفالها بمجرد ان يشتد عودهم
    معروف عن القطط انها ناكرة للجميل ولا تعرف معنا للإخلاص ..أما الطائر فيحمل دائما ذلك الحنين للأماكن أعتقد لذلك اختاروه لإرسال المراسيل ..
    تخيلت صدمة مغادرته دون أسف ودون أمل فى عودة وكأن حديث العيون بينكما كان وهما

    الاغنية مختلفة تماما عن تلك التى تعودتها من عايدة الأيوبى
    وأراها جميلة فى الحالتين
    التوزيع الجديد جميل فعلا
    :)

    ReplyDelete
  8. دي معركة اليمامة بس 2010
    سبحان من علم الطير كل هذا ...إنها آيات الله في خلقه سيدي

    زمان في بيت جدتي كان لليمام أعشاش لا تعد ولكنه كان كيس فطن يبني عشه عند مواسير الصرف وليس عند النوافذ وكنا نضع له حبوب الأرز على سور الشباك ونختبيء لنراقبه يأتي مترقبا متحفزا ثم يأخذ الحبوب ويعود إلى عشه .....جزاك الله خيرا ...تحياتي

    ReplyDelete
  9. بجد تسلم يارب

    بوست رائع مريح

    ربنا يصلح حالك يارب

    ReplyDelete
  10. ساعات كثيرة يعود صغارهالأول مكان عرفوا فيه الحياة ليبنوا أعشاشهم
    فانتظرهم في مثل هذا الوقت من العام القادم
    وليتهم يقدرون على إخبارنا بخبرتهم في دنيانا ما بين انطلاقتهم وعودتهم

    ReplyDelete